لا جديد
قيد الدين العام
الحلّ المعجز
في منتصف يونيو/حزيران الحالي، اتخذت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري قرارها برفع سعر الفائدة على الودائع والقروض بنسبة 1%، ليصبح سعر الفائدة على الودائع 11.75%، وسعر الفائدة على الاقتراض من البنوك المصرية 12.75%. وعللت لجنة السياسة النقدية قرارها بمواجهة ارتفاع معدلات التضخم التي وصلت إلى 12.3% في مايو/أيار 2016 على أساس سنوي.
وانصرفت رؤية اللجنة -وكذلك بعض الاقتصاديين- إلى تحليل الوضع في ضوء مفردات ومعالجات السياسة النقدية، وكأن الأمر قاصر على المحددات النقدية بنظرة ضيقة في إطار أثر سعر الفائدة في الحد من التضخم، لمعالجة حالات الركود والرواج.
لكن البيان الصحفي للجنة السياسة النقدية -المنشور على موقع البنك المركزي– يشير إلى بيت الداء والسبب الرئيس في ارتفاع معدلات التضخم، وهو المساهمة السالبة لقطاع الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي، وأن لهذه المساهمة السالبة مظهرين، الأول في التراجع المستمر في نشاط الصناعات الاستخراجية، وكذلك المساهمة السالبة للصناعات التحويلية. في المقابل أتى قطاع البناء والتشييد على رأس القطاعات الأعلى مساهمة في الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك قطاع الخدمات.
وحتى القطاعات التي ساهمت مساهمة إيجابية في الناتج، نجد أنها تؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم، وليس ثباته أو تراجعه. فقطاع البناء والتشييد يعتمد بشكل كبير على الاستيراد، سواء استيراد خامات الحديد والأخشاب، أو استيراد العدد والآلات ومستلزمات الإنتاج والسلع الوسيطة من مواد كيمياوية وغيرها. وبالتالي فهذه المساهمة الإيجابية في الناتج من قطاع البناء والتشييد تؤجج معدل التضخم، بسبب انخفاض قيمة العملة المحلية، وارتفاع الدولار الذي يشكل عصب عملية الاستيراد لقطاع البناء والتشييد. ولعل الارتفاعات المستمرة في سعر سلعتي الحديد والإسمنت خير دليل على كون القطاع مصدرا لارتفاع معدلات التضخم.
أما قطاع الخدمات فتأتي مساهمته الإيجابية في الناتج من ارتفاع مساهمة القطاعات الخدمية الحكومية المتمثلة في مساهمة نشاطي التعليم والصحة، كما لا يزال قطاع الخدمات المصري يتسم بضعف القيمة المضافة، ويعتمد بشكل رئيس على استيراد التكنولوجيا، وليس توطينها أو إنتاجها محليا.
وفقا لآلية السياسة النقدية الخاصة برفع سعر الفائدة على الودائع لتشجيع المدخرين على تقييد إنفاقهم على الاستهلاك والتوجه للادخار للاستفادة من سعر الفائدة المرتفع، نجد أن هذه الآلية لا تحقق أثرا إيجابيا، إذ إن معدل التضخم في مايو/أيار الماضي البالغ 12.3% يفوق سعر الفائدة الجديد الذي قررته اللجنة في 16 يونيو/حزيران الحالي، وهو 11.75%.
فالمودع لا يزال ينظر إلى إيداع أمواله في البنوك على أنه ذو مردود سلبي، حيث معدل التضخم أعلى من سعر الفائدة على الودائع، وبالتالي ما الميزة التي سيحصل عليها المودع لكي يضع أمواله في البنوك إذا كان سيجني من إيداعه خسائر في النهاية؟ هذا بفرض أن معدل التضخم سيظل ثابتا مع نهاية العام، ولكن التوقعات تشير إلى أن مصر دخلت بالفعل مرحلة "التضخم الجامح"، أي التضخم الذي لا يمكن السيطرة عليه، والمتوقع له زيادات مستمرة ومرتفعة.
وما الذي يدفع المودع لكي يضع أمواله في البنوك أمام هذه الفرص من المضاربات في البورصة، أو في السوق السوداء على الدولار، أو على الأقل الاتجاه للدولرة، أو المضاربة على العقارات؟
إن السوق السوداء للدولار في مصر أصبحت ملاذا للمضاربة، على الرغم من القيود والتشريعات التي تتبناها الحكومة لزيادة العقوبات على تجارة العملة، ولكن الحيل لدى التجار في ظل التكنولوجيا الحديثة شجعتهم على تجاوز هذه العقوبات. وعاد الدولار لينشط مرة أخرى في السوق السوداء بمصر، وليتجاوز حاجز 11 جنيها للدولار بعد أن ظل لنحو أسبوعين بحدود سعر 10.8 جنيهات للدولار.
تعقدت المشكلات الاقتصادية في مصر، حتى أصبح صانع السياسة الاقتصادية في حيرة من أمره. فالقرار الذي اتخذته لجنة السياسة النقدية برفع سعر الفائدة بنسبة 1%، سيجعل وزير المالية يصرخ لارتفاع معدلات خدمة الدين المحلي نتيجة هذه الزيادة، والتي ستكلفه ما يزيد على 50 مليار جنيه (5.6 مليارات دولار)، لأن متطلبات الاقتراض للعام المالي 2016-2017 الذي سيبدأ في أول يوليو/تموز المقبل، ستكون بحدود 576 مليار جنيه (64.9 مليار دولار).
ومعنى ذلك أن خدمة الديون ستقفز لتتجاوز ما خصص لها في مشروع الموازنة من 295 مليار جنيه لنحو 350 مليار جنيه، كما أن عجز الموازنة سيزيد على 319 مليار جنيه ليكون بحدود 360 مليار جنيه على الأقل.
ونظرا لأن الحكومة المصرية لا تمتلك برنامجا لمعالجة قضية الدين العام بشكل حقيقي، والخروج من آلية مجرد استهلاك الديون القديمة بديون جديدة؛ ستكون أعباء التضخم أكبر على الاقتصاد في ظل زيادة أعباء الدين العام.
ولا يغيب عنا أن الحكومة خلال الأعوام الثلاثة الماضية أفرطت في طبع النقود، بدون غطاء من نقد أجنبي أو ذهب، مما فاقم من مشكلة التضخم بشكل كبير. ونحسب أن الحكومة في ظل أدائها الاقتصادي الحالي سوف تستمر في طبع النقود وتحقيق المزيد من الضغوط التضخمية.
وعلى ما يبدو، فإن قضية الدين لم تعد على أجندة اهتمامات الحكومة، بدليل إفراطها في التوجه للاقتراض الخارجي، بعد أن وصل الدين العام إلى نحو 3.1 تريليونات جنيه، منها (2.4 تريليون جنيه دين محلي، و53.4 مليار دولار دين خارجي). ويخشى من هذا السلوك الحكومي أن تنحدر مصر في دوامة أزمة الديون الخارجية مرة أخرى، بصورة مشابهة لما عاشته نهاية عقد الثمانينيات من القرن العشرين.
يمثل الإجراء المكمل والضروري لمواجهة التضخم في مصر حلا معجزا لحكومات ما بعد الانقلاب العسكري، وهو بناء قاعدة إنتاجية قوية في قطاعي الصناعة والزراعة. والملاحظ أن حكومات ما بعد الانقلاب تركز -شأن حكومات مبارك- على الأنشطة الريعية أو القطاع العقاري والسياحي أو الأنشطة الاقتصادية التي تؤدي إلى مزيد من تبعية الاقتصاد المصري للخارج.
والدليل أنها لم تعبأ بقراراتها فيما يتعلق بالفشل في توفير الطاقة لقطاع الصناعة بأسعار تمكنه من المنافسة المحلية أو العالمية، أو حتى البحث عن أسباب إغلاق العديد من المصانع. كما أنها لا تتبنى سياسة "الإحلال محل الواردات"، حتى تكون قراراتها المتعلقة برفع الرسوم الجمركية أو الحد من الواردات ذات مردود إيجابي على الناتج المحلي أو التخفيف من الطلب على الدولار، أو تحسين أداء الناتج المحلي من حيث إنتاج السلع والخدمات وبالتالي تقليل معدلات التضخم.
إن قرار رفع سعر الفائدة ستكون له آثار سلبية على القطاعات الإنتاجية، وبخاصة في قطاعي الصناعة والزراعة، نظرا لارتفاع تكلفة التمويل التي لن يجد المنتج سبيلا لتفادي آثارها سوى تحميلها على حساب المستهلك، وهو ما يفقد المنتج المصري ميزة التنافسية السعرية أمام المنتج الأجنبي، سواء في السوق المحلي أو الأجنبي.
كما ستذهب مبالغ دعم الصادرات سدى، والتي تقدر بنحو 4.6 مليارات جنيه في مشروع موازنة 2016-2017. فقبل رفع تكلفة التمويل شهد عام 2015 وبدايات عام 2016 تراجعا ملحوظا في أداء الصادرات السلعية لمصر، قُدر بنسبة 10% خلال عام 2015، فما بالنا إذا زادت تكلفة التمويل للمنتج المصري؟ بلا شك ستنتظر الصادرات المصرية المزيد من التراجع خلال الفترة المقبلة.
فكان على الحكومة ألا تطلق يد البنك المركزي لينفرد بعلاج مشكلة تقتضي مساهمة كافة مكونات السياسة الاقتصادية لحلها، وليس فقط السياسة النقدية. فلا علاج لقضية التضخم في مصر دون أن ينظر إليها من جوانبها المختلفة، وبخاصة الجوانب المتعلقة بالإنتاج والاستثمار، والعمل على تجنيب الأثر الخارجي في رفع معدلات التضخم، وخاصة في ظل تراجع قيمة الجنيه المصري.
ولذلك نرى أن الحل الصحيح للقضية من وجهة نظرنا هو حل تعجز قدرات الحكومة الحالية عن المضي في امتلاك أدواته وسياسات تنفيذه، فهو حل معجز لها.
إن ممارسات حكومة شريف إسماعيل -وما قبلها من حكومات- بإطلاق يد البنك المركزي في اتخاذ قرارات لا تأخذ في الاعتبار آثارها السلبية على باقي مكونات السياسات الاقتصادية، يدل على أن سياسة الجزر المنعزلة هي التي تحكم تصرفات الحكومة، أو أن التداعيات السلبية للمشكلة الاقتصادية في مصر أصبحت أكبر من أن يحاط بها، وبالتالي فليفعل كل مسؤول ما يشاء.